الخميس، 2 فبراير 2012

لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ طبائع إقتصادية (1)


نرجع مرة أخرى إلى موضوع تقدم بعض البلاد. لقد قدمنا في مدونات ماضية العوامل الثقافية التي تجعل المجتمع إما مهيأَ أو مناهضًا للتنمية، وهذه العوامل تنقسم إلى أربع مجموعات:
- عوامل اجتماعية،
- وطبائع إقتصادية،
- وأخلاقيات،
- ونظرة المجتمع إلى العالم الخارجي.
وفي المدونات السابقة قدمنا المجموعة الأولى وهي العوامل الاجتماعية التي تهيئ أو تناهض تنمية المجتمع، وفي هذه المدونة سنبدأ في تقديم المجموعة الثانية، وهي الطبائع الاقتصادية التي تهيئ أو تناهض تنمية المجتمع، ونبدأ بأهم عامل اقتصادي يؤثر على قابلية المجتمع للتقدم، وهي نظرته إلى العمل.

نظرة المجتمع إلى العمل
لأن التقدم يرتكز إلى العمل فمن الطبيعي أن تكون نظرة المجتمع إلى العمل هي أول عامل إقتصادي يهيئ للتنمية.
ونظرة المجتمع إلى العمل تتأثر بعوامل كثيرة أولها النظرة التي تنظر بها ديانة المجتمع إلى العمل، فمن المعروف أن الديانة البروتستانتية تشجع العمل بقوة وبإصرار، وهي في ذلك تختلف عن الديانة الكاثوليكية التي تشجع على التفكر أكثر مما تشجع على العمل اليدوي، وأفكار الديانة الكاثوليكية هم تكملة لأفكار الإغريق القدماء الذين كانوا يحتقرون العمل اليدوي.
والإسلام يشبه البروتستانتية في عدم احتقاره للعمل. هو لا يشجعه بالقوة والإصرار كما تشجعه الديانة البروتستانتية، ولكن عندنا من الأقاويل والقصص ما نستطيع أن نبني عليها ثقافة قوية لاحترام العمل.
والكونفوشيوسية في الشرق الأقصى هي أيضًا كانت تنظر باستعلاء إلى العمل اليدوي، وتعتبر كل من المفكر، والراهب، والمحارب أعلى مرتبة من العامل اليدوى أو من التاجر. ولكن في منتصف القرن التاسع عشر، قررت بلاد كونفوشيوسية مثل اليابان أن تلحق بالغرب وأن ترتقي بمرتبة العامل، ونجحت، بل وبرعت في تغيير نظرة أفرادها.
كذلك، في منتصف القرن العشرين، قررت بلاد أمريكا الجنوبية، التي يعتنق معظم شعوبها الكاثوليكية، قررت هي أيضًا أن تعطي أهمية أكثر ومرتبة أعلى للعمل اليدوي، وتغيير ثقافاتها من أوجه كثيرة، ونجحت إلى حد ما.
نفهم من ذلك، أن الإسلام لا ينظر باستعلاء إلى العمل اليدوي، ومع ذلك، فنحن نرى أن المجتمعات العربية الإسلامية لا تشجع على العمل. فما سبب ذلك؟
أول سبب هو سبب ثقافي-تاريخي، فتاريخيًا، وبعيدًا عن الدين، لم يترب الشعب المصري على احترام العمل من أجل العمل نفسه، وإلى وقت الحرب العالمية الثانية كان المثل الأعلى هو رجل الأعيان الذي لا يعمل، بل يذهب كل حين إلى العزبة ويأخذ ثمن بيع القطن أو أي محصول يزرعه، ويفتخر أنه لا يعمل. ونرى حاليًا هذا الفكر الثقافي في بلاد الخليج حيث يستعلى أهل الخليج على العمل اليدوي ويستوردون العمالة الأسيوية لتقوم به.
كذلك، من تجربتي في شيكاغو عندما كانت هناك جاليات حديثة الهجرة من البوسنة ومصر وفلسطين، كنا نستطيع أن نجد سيدة من البوسنة أو من بولندا تعمل في تنظيف المنزل والعناية بالأطفال، وأعرف طبيبة من بولندا أتت إلى شيكاغو عن طريق كنيسة بولندية لتعمل في منزل عائلة طبيب مصري! نعم طبيية لم تستعل أن تعمل منظفة في منزل طبيب، ولكن السيدات المصريات والفلسطينيات كن يرفضن العمل في منازل الغير، وفي الوقت الذي كانت ترفض فيه السيدة البوسنية أن تأخذ معونة بطالة من الحكومة، وتفضل أن تعمل في المنازل وتكسب رزقها بعرق جبينها، كانت العربية تفضل أن تأخذ معونة البطالة على أن تعمل في المنازل. هي ثقافة عمل.
ثاني سبب هو أيضًا سبب ثقافي حيث تركت الدولة العامل المصري لسجيته البدائية ولم تعمل على الارتقاء بأساسيات ثقافة العمل عنده، فالعامل المصري الحر، الغير مرتبط بوظيفة في شركة أو في الحكومة (مثلاً من يعمل في طلاء الحوائط)، هذا العامل يعمل ليعيش، يعمل لماديات الحياة، يعمل ليومه، دون هدف طويل المدى، وعندما يأخذ أتعابه في نهاية أسبوع العمل، كثيرًا ما ينقطع عن العمل حتى تنفد نقوده، وعندها يرجع مرة ثانية فيجلس على قهوة عمال الطلاء إذا كان يعمل في الطلاء، أو قهوة البنائين إذا كان يعمل في البناء، يجلس يوميًا على القهوة حتى يجد عملاً، فيعيد الكرة.
وقد درست سبب هذا التصرف الشائع في أوساط العمال المصريين، وبالأخص الغير متعلمين منهم، فعرفت أن البني آدم بطبيعته البدائية يعمل للهدف المادي القصير المدى، فيعمل ليأتي بالطعام الذي يحتاجه الآن، غير مهتم بالغد، وهو التصرف البدائي الذي ولدنا به، هو التصرف الذي يقوم به الأطفال والحيوانات، فالحيوان يصطاد حتى يشبع فيتوقف عن الصيد. وهذا ما لاحظه مهاتير محمد في شعبه ووصفهم بالكسالى، ولكنه لم يتوقف عند وصفهم بل عمل على أن يغير من ثقافة العمل عندهم، فعندما وصل إلى الحكم أقام معسكرات للشباب من سن العشرين إلى أربعين سنة، معسكرات يتعلمون فيها حرفة من أخصائيين، ولكن أهم من الحرفة كان هدف المعسكرات تغيير ثقافة العمل عندهم.
ماهي ثقافة العمل التي يجب أن نعمل على تغييرها؟
أولا، التبكير في العمل، فمن رجع إلى مصر بعد أن عاش سنينًا في الغرب يلاحظ أن المحال التجارية اصبحت تفتح أبوابها في منتصف اليوم بعدما كانت تفتح في التاسعة أو العاشرة صباحًا. وفي مذكرات الدكتور محمد أبو الغار وصف لمظاهرة في أربعينات القرن الماضي فيكتب أنها تكونت أمام قصر عابدين الساعة التاسعة صباحًا! ضحكت عندما قرأت أن المظاهرات كانت تبدأ في التاسعة صباحًا، لأن الآن أي مظاهرة لا تبدأ في التكون قبل صلاة الظهر. هي ثقافة اكتسبناها من الخليج، وننميها بالتلفزيون الذي يعمل دون توقف ليلاً ونهارًا، ويساعد على تكوين ""حزب الكنبة" أي سلبية المجتمع، وأصبح من عادات المجتمع ألا ينام قبل الواحدة أو الثانية صباحًا، ثم يصحو لصلاة الفجر، ثم يأخذ إغفاءة ولا يصحو قبل العاشرة صباحًا!
في الماضي كانت هناك استراتيجية لتغييب الشعب وكان التلفزيون من أهم أدواتها، ولقد حان الوقت أن نتفهم دور التلفزيون في تغيير ثقافة المجتمع وأن نوجه هذا الدور لبناء ثقافة عمل.
ثانيًا، ترشيد تواصل العامل المصري مع عمله. العامل الذي ينقطع عن العمل بعد أن يقبض ماهيته، وينام في السرير ويشاهد التلفزيون إلى أن يصرف نقوده هذا العامل يعمل لقوته اليومي ولم تنم فيه صفة التواصل مع عمله، والفخر به. هو يعمل ليأكل، ولا يعمل لينتج عملاً يفتخر به. كيف تكون صلة التواصل بين العامل وعمله؟
هناك أربع أساسيات تساعد على تكوين ثقافة التواصل مع العمل والفخر به: أولاً، الحرية، أن يشعر العامل بأنه حر في أن يعمل وأن ينتج، وأن يبرع في عمله، وقد أعرب عن هذا الفكر دكتور أمارتيا سن Amartya Sen، وهو أستاذ إقتصاد هندي حصل على الدكتوراه من جامعة كامبردج، وعاصر في طفولته مجاعة البنغال في عام 1943 التي مات فيها ثلاثة ملايين هندي، فأوجد هذا الحادث عنده إهتمامًا خاصًا بدراسة تقدم الشعوب الفقيرة ومعرفة الظروف التي تساعد على نموها، ونتيجة لدراساته وصل إلى قناعة أن تقدم الشعوب ينبع من حريتها، فلكي تتقدم تحتاج لحرية في حدود القانون، وكانت دراسته ""Development is Freedom أو "التنمية هي الحرية" من أسباب تأهله لجائزة نوبل التي حصل عليها عام 1998.
والسبب الثاني لثقافة التواصل مع العمل والفخر به هو احترام النفس والاعتزاز بها،  فالمعروف أن الحرية تتواجد مع احترام النفس والاعتزاز بها، واحترام الآخر، فالمجتمعات التي توجد فيها حرية في حدود القانون يسود فيها احترام النفس واحترام الآخر، والاعتزاز بالنفس. ومن يعتز بنفسه يأبى أن يعمل ما ينتقص من احترامه لها، وكذلك، من يعتز بنفسه يعمل على أن يحافظ على هذا الاحساس تجاه نفسه، فيتقن عمله ويقوم به أحسن قيام لأن هذا الإتقان يساعده على أن يحافظ على اعتزازه بنفسه. وفي الماضي كانت كل الظروف تعمل على الانتقاص من احترام الفرد: قانون الطوارئ، وأمن الدولة، وموكب الوزراء الذي يجعل ركاب السيارات يضيعون ساعات من وقتهم إلى أن يمر الموكب، إلخ.
والسبب الثالث لثقافة التواصل مع العمل والفخر به هو أن يتعلم العامل منذ الصغر أن يكون أهدافًا في عمله، وأهدافًا ليومه، وأهدافًا لحياته، فالأهداف هي أول علاقة تواصل بين العامل وعمله، وهو ما نؤكد عليه في برنامج "أنا ونحن". نعلم الأطفال أن يكونوا دائمًا أهدافًا لأنفسهم، أهدافًا قصيرة المدى وأهدافًا طويلة المدى، بذلك نهيئهم للتواصل مع عملهم والفخر به.
والسبب الرابع لثقافة التواصل مع العمل والفخر به أن نربي في العامل منذ الصغر أن يجد هدفًا ساميًا في عمله، وألا يعمل فقط للماديات، وللأجر الذي يتقاضاه عن عمله، لذلك، نشجع الأطفال منذ الصغر أن يقوموا بعمل تطوعي، وفي دراسة من الولايات المتحدة لأفضل المدرسين وجدوا أن الشرط الأساسي لأن يكون مدرس أفضل من مدرس آخر ويتقدم تلاميذه ليست شهاداته الدراسية، أو طول خبرته في العمل، ولكن ما يفضله عن المدرسين الآخرين أن يكون قد كون لنفسه هدفًا ساميًا في عمله، أي هو يدرس للأطفال لأنه يريد أن يتقدموا، فهذا هدفه السامي في عمله، كذلك، العامل الياباني تعلم في المدرسة أن يتقن عمله لأن العمل الذي يقوم به كل فرد في الوطن يساعد على تقدم الوطن، فهنا تقدم الوطن هو الهدف السامي الذي يسمو إليه كل ياباني.
وفي جزئية "أنا ونحن مجتمعنا" قدمنا قصة حقيقية لمساعد معمل أمريكي اختلط عليه الفرق بين العمل والإنتاج، فناقشته رئيسته وأوضحت له أن الحيوان، مثله مثل الآلة لا يعمل، ولكنه ينتج، والفرق كبير بين الإنتاج والعمل. فالعمل نشاط سام، لا يقدر عليه غير الإنسان، لأن الإنسان هو الوحيد الذي يستطيع أن يتواصل مع إنتاجه، ويخطط له، ويفخر بنتيجته. وكانت نتيجة هذا التوضيح أن تعرف الشاب على سمو العمل، وأحسن من عمله، والتحق بكلية الدراسات العليا، وحصل على الدكتوراة وأصبح أستاذا في الجامعة.
وهنا قالت شهرزاد: "أتمنى أن أكون قد أوضحت أهمية ثقافة العمل وكيفية بنائها في شعبنا"، وسكتت عن الكلام المباح.

د/سهير الدفراوي المصري
29 يناير 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون