الخميس، 1 مارس 2012

لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ طبائع اقتصادية (4)


لأهمية دور الطبائع الاقتصادية في تقدم الشعوب نقدم هذه الطبائع على أربعة أجزاء.

في المدونات السابقة شرحنا كيف تتقدم الشعوب التي تتعلم كيف تتخطى ماديات الحياة وتُكون لنفسها أهدافًا سامية في عملها، أما الشعوب التي تبقى على طبيعتها البدائية وتعمل فقط لتحصل على ما تحتاجه من ماديات، أي تعمل لتعيش، هذه الشعوب لا تتقدم. وشرحنا أهمية أن تتعلم الشعوب وتمارس الادخار وريادة الأعمال، وأظهرنا أن ريادة الأعمال تستند إلى الحرية والتفنن، فلن تتقدم الشعوب دون حرية وتفنن، وشرحنا أهمية القابلية للمخاطرة المدروسة في العمل، أي يجب أن نخاطر، ولكن يجب أن ندرس المخاطرة، وأوضحناهمأهمية التنافس للتقدم الاقتصادي للشعوب.


وفي هذه المدونة نكمل موضوع الطبائع الاقتصادية التي تهيئ لتنمية الشعوب والطبائع الأخرى التي تناهض التنمية.

التفنن هو من العوامل التي تساند ريادة الأعمال، ولكنه بذاته هو أيضًا عامل اقتصادي مهم، فالبلاد التي تشجع التفنن هي البلاد التي تتقدم، ويقال أن من أهم أسباب تقدم الحضارة الإسلامية هو تفتحها على الثقافات الأخرى، مثل الثقافة الإغريقية التي ساعدها العرب ألا تندثر في العصور الوسطى المظلمة، وتقبل الثقافة الإسلامية أن تلقح من أفكار واكتشافات الإغريق، والهند والصين، فالأرقام العربية جاءت من الأرقام الهندية، وبنى العرب على التقدم الذي أحرزه الإغريق في الطب، وعلم الفلك، وفي كثير من العلوم الأخرى.

وقبل القرن التاسع اخترع الصينيون الورق والطباعة بقالب الخشب، كذلك، اخترعوا الطباعة بالحروف المتحركة مئات السنين قبل أن يخترعها جوتمبرج، ولكن لأن عدد الحروف الأبجدية الصينية كان يعد بالآلاف فلم يستطع الصينيون الاستفادة من اختراع الورق أو الطباعة بالحروف المتحركة، وبقيت هذه الاختراعات غير مستفاد منها.

وفي عام 751 عندما فاز العباسيون على الصينيين في معركة تالس في كيرجيستان، وأسروا بعض الصينيين الذين كانوا يعرفون كيفية صناعة الورق، علم الصينيون العباسيين هذه الصناعة، وبدورهم ساعد العباسيون على انتشار الورق عن طريق تحويل صناعته من الطاقة اليدوية إلى الطاقة المائية، وبدءًا من عهد العباسيين انتشرت الكتابة على الورق.

هكذا نرى كيف أن انفتاح العرب على الثقافات الأخرى أتى بفائدة كبيرة على العرب وعلى الإنسانية.

بهذه المناسبة أذكر أنه عندما سافرت إلى الولايات المتحدة كطالبة واشترينا أول جهاز تلفزيون كنت أتعجب كثيرًا للإعلانات التي تكتفي بأن تقول عن المنتج الذي تعلن عنه أنه "جديد" "It's New" أو أنه "جديد ومحسن" "It's New and Improved" وترى أن هذا الوصف يكفي أن يهتم المشاهد بالمنتج، فثقافة الشعب الأمريكي جعلته يقدر كل ما هو جديد، متفنن، متغير، ولأن ثقافته كانت تشجعه على تقدير التفنن، فتقدم، أما نحن، فقد كبرنا ونحن نعرف أن صفة "بدعة"، التي هي من صفات التفنن غير مستحبة وهي من الشيطان، والآن جاء السلفيون إلى الساحة ليؤكدوا أن الرجوع إلى الماضي، ما سلف، هو المرغوب فيه، بما فيه الجلباب القصير واللحية غير المهذبة.

فهل سيستطيع التفنن أن يترعرع في ظل السلفية أموهل نقول عليه وعلى التقدم السلام ؟

لا أخوض في الكتابة في السياسة أو في الدين، وأتعامل معهما فقط من الناحية الثقافية، وفي هذه المدونة أتعامل معهما من ناحية تأثيرهما على ثقافة الشعوب وتقدمها.

وإجابة عن السؤال السابق أحب أن أنبه إلى أن مفاهيم مصادر الثروة في الماضي كانت تستند إلى امتلاك الموارد الطبيعة أو العمالة الرخيصة التي كانت تعتبر ميزة تدعم الإنتاجية والرخاء، فكانت البلاد التي تمتلك موارد طبيعية مثل الغاز والبترول هي التي تصبح ثرية، أما الآن فمفاهيم مصادر الثروة تستند إلى التفنن في المنتج، وفي طبيعة عملياته، والتفنن في الاستراتيجيات المستخدمة لإنتاجه، وفي تجزئة السوق، أي أن حاليًا التفنن اصبح من أهم مصادر الثروة، لذا أرى أن التيار السلفي لن يستطيع أن يبقى في الساحة إلا إذا تأقلم وتغير، لأن مصر تفتقر إلى الموارد الطبيعية، ولكي تتقدم عليها أن تتقدم بالعامل البشري وبالأوجه المختلفة من التفنن.

من الطبائع الاقتصادية التي تساعد على تقدم البلاد هو تطبيق حازم لنظام الاستحقاق بجدارة في التوظيف، فلا يحصل أي فرد على وظيفة إلا إذا كان أفضل من يستحقها، وينتج عن تطبيق هذا النظام بحزم أن يتقدم العمل وتتقدم البلاد لسببين: لأن أكثر فرد كفء يقوم بالعمل، فيقوم به أحسن قيام، ولأن هذا الموظف الكفء لن يخاف من تعيين الأكفاء مثله، فيحيط نفسه بهم، ويتقدم العمل، أما عندما يوظف غير الكفء فالمشكلة لن تكون فقط في أدائه، ولكنها ستكون في من يعينهم، لأنه لن يعين من هم أكفأ منه، فتنحدر أنتاجية المكان.

كيف يطبق نظام الاستحقاق بجدارة في التوظيف؟ يطبق بالقانون الصارم كما طبقه لي كوان يو Lee Kuan Yew رئيس وزراء سنغافورة واستطاع أن يغير ويتقدم بالبلد في عشر سنوات، أو بتغيير الثقافة كما عملت اليابان في عهد ما بعد الشغونات حيث غيرت الثقافة عن طريق التعليم المدرسي، والتدريب في الجيش، وتمرين الحرفيين كما أوضحنا في المدونة السابقة: "لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ اليابان، حالة خاصة".

وفي الوقت الحاضر تستطيع حكومات البلاد النامية أن تغير ثقافة شعوبها بسهولة أكثر من ذي قبل، ذلك، لأن التلفزيون يقدم أداة سهلة وفعالة لتغيير ثقافة المجتمع، وقد قصصنا في مدونة "سؤال: لماذا الاهتمام بأسباب تقدم أو عدم تقدم البلاد الأخرى؟" كيف أن الصين عندما خشيت أن تغير أفلام أمريكية من ثقافة فصيل من شعبها عملت على ألا تظهر هذه الأفلام على التلفزيون الصيني وقدمت بدلاً منها أفلامًا صينية صناعة أمريكية، لأن الصين تقدر أهمية الحفاظ على ثقافة شعبها.

وهنا قالت شهرزاد "ياحبذا لو كنا فهمنا دور التلفزيون في تغيير الثقافة، ما كنا سمحنا بهذه القنوات التي لا نعرف من أين يأتي تمويلها"، وسكتت عن الكلام المباح.




د/سهير الدفراوي المصري

هناك 3 تعليقات:

  1. محمد رجب النجار5 مارس 2012 في 2:48 م

    د. سهير تحياتى لسيادتكم وللجهد المبذول ونتمنى ان نرى المزيد والمزيد من الافكار الهامه والتى تعبر بصدق عن المرحلة
    خالص التحية والتقدير
    محمد رجب

    ردحذف
  2. الأستاذة الدكتورة سهير
    الحقيقة أني قد عثرت على هذه المدونة بالصدفة وأود أن اسجل تعليقي على تحليل حضرتك وتحفظك على نهج السلفيين. فقد يكون السلفيين قد أخطأوا في عدم شرح منهجهم وتوضيحه للناس والأكتفاء بموقف الهجوم الدفاعي.
    ان نهج السلف ليس ردة عن التقدم والحيد عن التفكير والإبداع والتطور ولكنه محاولة للرجوع بنسق القيم لنهج السلف الصالح والذي يدخل فيه اتقان العمل والإخلاص والولاء وحسن الخلق والنظام والألتزام والتي هي أساس تقدم أي حضارة
    ويعتقد الكثير من المفكرين أن الأسس الأولية لتقدم أي دولة هي أنساق قيمها، ونحن لدينا هذه الأنساق مكتملة المعالم وكل ما علينا هو إعادة اكتشافها والدعوة لإتباعها. فالإسلام على نهج السلف لا يعني تكبيل الفكر بالقيود ومنع الإبداع بل على العكس من ذلك فلقد دعانا الله عز وجل إلى التفكر وشكر النعمة هو العمل بها وأكبر نعمة من الله على الإنسان هي نعمة العقل، فالشكر عليها هو استخدامها لخير الإنسان والبشرية، والهدف السامي من وجود الإنسان في صحيح عقيدة الإسلام هو عبادة الله وأرقى أعمال العبادة هو عمارة الأرض وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها، فلا يمكن أن يكون اصحاب هذا المنهج من دعاة التأخر والعودة إلى العصور الوسطى
    ولكنى أتفق معك يا دكتورة أن بعض الأشخاص قد يسيئون إلى صورة الإسلام ووجهه الحقيقى المشرق
    وأرجو ان تتقبلي خالص التحية والتقدير
    وليد الحداد

    ردحذف
  3. سيدتي الفاضلة الدكتورة سهير
    لكم اسعدني قراءة مدونتك، واكاد اجزم بعظم ما تحمل روحك من حب لهذه الامة والم لاوضاعها.
    لقد عملت لحوالي الاربعين عاما في مجال النظم الادارية ونظم الحاسبات، وحاولت الانتقال من اجترار الالم بنقد اعراض مرضنا الى محاولة وضع منهجية متكاملة للنهضة في مدونتي:-
    www.nahdat.com
    ادعوك والاحباء جميعا لزيارتها، لعل ما كتبته فيها يزيد في فهم الحل واحياء الامل وبعث التفاؤل.
    وما أحوجنا يا سيدتي الى ربيع عربي فردي لكل واحد منا، ينتصر فيه على اهواءه ومصالحه لصالح امته.
    سلمت يداك على هذه المدونة الغنية الرائعة وجزاك الله عنا خيرا
    خالد الكيلاني
    khaledkilani@gmail.com

    ردحذف

المتابعون