الاثنين، 6 فبراير 2012

لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ طبائع اقتصادية (2)


بدأنا في المدونة الماضية في تقديم الطبائع الاقتصادية التي تساعد على تقدم الشعوب، وكان أول موضوع قدمناه هو العمل، كيف أن الشعوب التي تربت على التواصل مع عملها، وتعودت أن تجد فيما تعمل هدفًا ساميًا، هذه الشعوب التي تعيش لتعمل، هي التي تتقدم، أما الشعوب التي تبقى على طبعها البدائي وليس عندها هدف في عملها غير الهدف المادي، هذه الشعوب التي تعمل لتعيش لا تتقدم.
وفي هذه المدونة نكمل تقديم الطبائع الاقتصادية التي تساعد على تقدم الشعوب. فبعد أن قدمنا دور العمل، من المنطق أن ننتقل إلى دور المال والادخار، لأن المال المدخر هو الوقود الذي يسحب عربة التقدم.
- الادخار ونظرة المجتمع إلى المال أو جمعه هي العوامل الاقتصادية الثانية المهيئة للتنمية. الشعوب التي تدخر تتقدم أكثر من الشعوب الاستهلاكية التي تهتم بمظاهر الأمور ولا تدخر، وهذا إلى حد ما متصل بعوامل كثيرة أولها ديانات هذه الشعوب.
الديانات التي تنحاز للفقراء مثل الكاثوليكية هي ديانات مقاومة للتنمية، فالديانة الكاثوليكية لا تشجع على جمع المال، وفي رأيها أن الأغنياء لن يدخلوا الجنة بسهولة، أما الفقراء فلهم الأفضلية فيها، وهي لا تشجع على الادخار بل تشجع على التبرع للكنيسة التي كانت في القرون الوسطى تصرف أموالاً طائلة على الفن وعلى الأيقونات.
ثم جاءت البروتستانتية التي شجعت على الادخار مع جدية العمل، ولم تشجع على صرف المال على الأيقونات وعلى الفن في الكنائس، وفي نظر البروتستانتي أن الثروة التي يجمعها هي بركة من الله ودليل على رضاء الخالق عليه.
أما الإسلام فهو يمسك العصا من المنتصف، إذ يشجع على مساعدة الفقير واليتيم والضعيف، ولكنه يؤكد أن المال زينة الحياة الدنيا.
هناك عوامل غير الديانات تؤثر على ادخار الشعوب ونظرتهم للمال وجمعه، فالبترو دولار في بلاد الخليج أنتج ميولاً استهلاكية قوية، فلا نستطيع أن نقول أنها شعوب مدخرة مثل الآسيويين أو البروتستانت الكالفنيين، ولو أن الفلاح المصري يعتبر من الشعوب المدخرة.
في العصور الماضية كانت المجتمعات الكونفوشيوسية لا تهتم بجمع المال، وكان البطل فيها هو المفكر أو المحارب، ولكنها في القرنين التاسع عشر والعشرين عملت على تغيير ثقافتها، وهناك مقولة مشهورة للسياسي الصيني دنج شاوبنج، Deng Xiaoping "to be rich is glorious" أي "الثراء شيء رائع".
والآن نستطيع أن نقول أن الادخار قد أصبح من أهم صفات المجتمعات الكونفوشيوسية، فعلى سبيل المثال في عام 2001 ادخر سكان سنغافورة 44,8% وادخر الصينيون %40,1 من دخلهم القومي!! والولايات المتحدة التي كانت تدخر الكثير فيما مضى لم تدخر إلا 17%، وهذا دليل على تغير نمط الادخار عندما تتقدم البلاد، فعندما تثرى تقلل من ادخارها، ولكن البلاد الفقيرة تحتاج أن تدخر لتنمو. ترى كم يدخر كل منا؟
والسؤال المهم الذي يأتي بعد ذلك: "ماذا يعمل المدخرون بمدخراتهم؟"
- ريادة الأعمال entrepreneurship هي العامل الاقتصادي الثالث المهيئ للتنمية. ويقولها صراحة الاقتصادي الشهير جوزيف شومبتر Joseph Schumpeter أن ريادة الأعمال هي ماكينة تقدم الشعوب.
لكي ينمو المجتمع لا يصح أن يدخر أعضاؤه ليستثمروا أموالهم في شراء الشقق أو في مبان، فهذا تصرف البلاد التي تناهض التقدم (وللأسف هذا ما نراه في مصر)، أما البلاد التي تساعد التقدم فتستثمر ما تدخره في مشاريع تستند إلى التفنن في منتج جديد، أو في عملية إنتاج جديدة أو في طريقة تسويق مختلفة، وهي مجتمعات تثابر في تحقيق هذه الطرق والعمليات المختلفة الجديدة، أي أن المجتمعات التي تتقدم هي المجتمعات التي تساعد ريادة الأعمال فيها.
ومن المنطق أن ريادة الأعمال ستختلف من بلد لآخر، وستتكون وتتأثر طبقًا لنظام التعليم المتبع في كل المجتمع، فإذا استند نظام التعليم إلى التلقين والحفظ، فهو لن يشجع التفنن ولن يعطي الطلبة حرية للتعبير عن أنفسهم، لذا لن يساعد على ريادة الأعمال. وهذا ما نراه في مصر.
وفي الوقت الذي مازلنا نحارب التعليم بالتلقين نلاحظ أن نظم التعليم في كثير من البلاد النامية قد تعدت مرحلة التلقين والحفظ وأصبحت نظم تعليم حديثة ومتقدمة، وما يحدد الجيد من المتوسط منها هو مستوى الحرية والتفنن الذي يعطيه النظام للطلبة، فيهيئهم للاختراع وريادة الأعمال. وقد رأينا هذا في ماليزيا وفي الهند فتقدمت هذه البلاد، ولكننا في مصر مازلنا نناهض التقدم بقوة ومن جهات مختلفة، فالمدرسة تؤكد على التلقين والحفظ في كل المعلومات، وعندما تأتي الإجازة الصيفية يصطف ملايين الأطفال في كتاتيب القرى من شمال إلى جنوب مصر ويلقنهم الشيخ القرآن فيزيد من عدم تفننهم وينتقص من قابليتهم للاختراع.
وبعد أن يتخرج الطلبة ويلتحقوا بالعمل نجد أن ريادة الأعمال عندهم تتأثر بنظام العمل في المجتمع وبحرية التفنن في العمل، وبالقوانين المتصلة بالإنتاج والتسويق. إذا كانت هذه العوامل صارمة، ولا تشجع الحرية والتفنن، وهي كذلك في مصر، فلن تترعرع ريادة الأعمال. وهذا تأكيد آخر لمقولة أمارتيا سن Amartya Sen المأثورة Development is freedom أي يجب أن تكون هناك حرية حتى يتقدم المجتمع.
منذ تقريبًا عشر سنوات قرأت كتابًا اسمه ""India Unbound أو "الهند التي كسرت قيودها"، وفيه يصف الكاتب جورشاران داس Gurcharan Das، وهو من الطبقة العالية الهندية، يصف رحلة قام بها عندما رجع إلى الهند بعد سنين طويلة في الولايات المتحدة وكيف قابل بعض الشباب من الأثرياء الجدد الهنود، فعرف أنهم كونوا شركات ويصبغون الأقطان الهندية بطريقة الباتيك، ويعملون منها ثياب سيدات وتنورات ويبيعونها عن طريق الإنترنت في أستراليا ونيوزيلاندا، فتفكر فيما سمعه من هذه الطبقة الثرية الجديدة.
لقد ظهرت هذه الطبقة من الأثرياء الجدد بعد أن كسر رئيس الوزراء ناراسمها راوNarasimha Rao القيود الاشتراكية والبيروقراطية التي كانت تقيد الهند. لولا أن قوانين تكوين الشركات أصبحت أقل بيروقراطية، ولولا أن الإنترنت والكمبيوتر دخلا إلى كل مكان في الهند، ولولا أن نظام بيع المنتجات الهندية بالإنترنت أصبح آمنًا ورخيصًا، وكذلك، نظام شحن المنتجات الهندية أصبح آمنًا ورخيصًا، أي لولا التغيير في كل هذه العوامل لما تكونت هذه الطبقة الثرية الجديدة من شباب لم يأخذ نصيبًا كبيرًا من التعليم، ولكنه تميز بالتفنن، وبقابلية للمغامرة المدروسة، لذلك، تقدم وتقدمت الهند به.
نقارن الهند بمصر، إننا ما زلنا نرسخ تحت وطأة البيروقراطية عندما نحاول تكوين شركة تجارية، ففي مصر هذا أمر مكلف ويحتاج وقتا أكثر من كثير من البلاد الأخرى، والبيع عن طريق الإنترنت غير متقدم لأن الثقة قليلة في أمانة المعاملات المالية عن طريق الإنترنت، فهناك قول أن الإنترنت مخترقة من جهات أمنية ومن غيرها، ومن ناحية أخرى فالشحن الدولي الآمن منه، وهي الشركات الدولية، غالي الثمن (وهذا متصل بالفساد، وبنظام اخطف واجري)، أما ما هو حكومي فتكفي زيارة واحدة لمكتب بريد لنرى البريد الملقى على الأرض فنفهم لماذا يضيع. وعندي أمثلة لكتب قيمة ضاعت عندما أرسلت إلىَّ من الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن رجعت إلى مصر اضطررت أن أوقف اشتراكي السنوي في مجلة  National Geographic Magazine الاشتراك الذي احتفظت به أكثر من ثلاثين عامًا، لأن المجلة أصبحت تضيع في البريد في مصر.  
ويأتي الإسلاميون الجدد على الساحة السياسية فيزيدون الطين بلة. نقول: "التقدم يرتكز إلى ريادة الأعمال، وريادة الأعمال ترتكز إلى الحرية والتفنن، والحرية والتفنن لا يتجزآن"، ونطالب بأن نعامل كأفراد ناضجين لهم حرية في التفنن وفي التقدم، فيقولون: "باسم الدين نعاملكم كقصر وننتقص من حرياتكم: حرية ملابس النساء، أو الحياة في منتجعات الشواطئ، ونعين "المطوعين". هذا الفكر يعتبر الدين هو المظهر، ويتناسى أن من يشعر بالضيق لن يتفنن ولن يبدع ولن يتقدم، لأن النسر المقيد لن يحلق في السماء عاليًا، وعندنا مثل انهيار الاتحاد السوفيتي.  
وهنا قالت شهرزاد: "الموضوع طويل، طويل، وله بقية"، وسكتت عن الكلام المباح.

د/سهير الدفراوي المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون