الأحد، 26 فبراير 2012

لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ طبائع اقتصادية (3)

 
في المدونتين السابقتين قدمنا بعض الطبائع الاقتصادية التي تساعد على تقدم الشعوب والطبائع الاقتصادية الأخرى التي تناهض تقدمها، فشرحنا كيف تتقدم الشعوب التي تتعلم كيف تُكون أهدافًا سامية في العمل، أما الشعوب التي تبقى على طبيعتها البدائية وتعمل فقط لتحصل على ما تحتاجه من ماديات، أي تعمل لتعيش، هذه الشعوب لا تتقدم. وشرحنا أهمية أن تتعلم الشعوب الادخار لأن الادخار هو الوقود الذي يسحب عربة التقدم، وشرحنا أهمية ريادة الأعمال لتقدم الشعوب، وأظهرنا أن ريادة الأعمال تستند إلى الحرية والتفنن، فلن تتقدم الشعوب دون حرية وتفنن.
وفي هذه المدونة نكمل مسيرتنا في تقديم الطبائع الاقتصادية التي تهيئ لتنمية الشعوب والطبائع الأخرى التي تناهض التنمية.
  - القابلية المدروسة للمخاطرة في العمل هي العامل الاقتصادي الرابع المهيئ للتنمية. فمن المعروف أن ريادة الأعمال تستند إلى عامل من المخاطرة، لأنها تستند إلى أشياء لم تجرب من قبل مثل الأفكار الجديدة أو طرق العمل المبتكرة، أو ما أشبه ذلك، ولكي تتقدم ريادة الأعمال في أي مجتمع ويتقدم المجتمع بها يجب ألا يندفع أفراد المجتمع في مخاطرات غير مدروسة، بل تكون في ثقافة هذا المجتمع أن  يدرس ويقيم ما يعمل.
قابلية الفرد أن يدرس ويقيم المخاطرة قبل أن يقوم بها تتصل أولاً بما تعلم في المدرسة وفي الجامعة من دراسة الأمور، وتحليلها، وتقييمها وأن تكون طريقة تفكيره منظمة، أي قابليته لتقييم مخاطرة أي مشروع يقوم به تتصل بنوعية تعليمه.
وأيضًا قابلية الفرد أن يدرس ويقيم المخاطرة قبل أن يقوم بها تتصل بطباعه وبثقافته إذا كانت تشجع على التأني، وعدم التهور، كذلك، تتصل بنظرته للعالم الذي يعيش فيه، فإذا كان يعتقد أنه مسير في هذه الدنيا وليس مخيرًا فيها، فسينظر إلى المخاطرة وكأنها شيء لا يستطيع أن يقيمه أو يتحكم فيه، وبالتالي إما أنه لن يتخذ أي مخاطرة مدروسة أو أنه سيغامر بطريقة غير مدروسة، وفي كلتا الحالتين لن يتقدم. ولكن إذا كان الفرد يعتقد أنه مخير فسيعتقد أن مصيره في يده، وسيقيم مدى المخاطرة المدروسة التي يستطيع أن يأخذها، وسيخاطر بطريقة مدروسة، فيتقدم، ويساعد على تقدم مجتمعه. لكل هذه الأسباب نعمل على أن نخلق في الشعب إحساسا بالتمكين وهو الإحساس الذي يضيع من الشعوب عندما تمر بفترة حكم دكتاتوري.
- التنافس هو العامل الاقتصادي الخامس المهيئ للتنمية.
نجد في المجتمعات المهيئة للتنمية والتقدم مستوى تنافس عال، تنافس في مجال السياسة وفي المجال العملي، ونستطيع أن نقول أن التنافسية هي أحد مظاهر حيوية هذه المجتمعات، أما في المجتمعات غير المهيئة للتنمية فلا نجد تنافسًا صحيًا، وفي هذه المجتمعات يعتبر التنافس عملاً عدوانيًا وغير مستحب.
أذكر أنني عندما التحقت بالدراسات العليا في كلية الطب، قسم الفارماكولوجي في جامعة مينسوتا، كنا، نحن طلاب الدراسات العليا والأساتذة، نجتمع كل يوم اثنين من الساعة الثانية عشرة إلى الواحدة بعد الظهر لنتناول طعام الغداء ونتناقش، وكل أسبوع يقدم طالب من الأربعة والعشرين طالبا في القسم أبحاثه التي قام بها في الشهر الماضي، والمشاكل التي قابلته، والمشاكل التي تغلب عليها، والتي ما زال يحاول التغلب عليها. وبدلاً من أن يتقبل الطلبة كلام زميلهم، كانوا لا يرحمونه، فيناقشونه بقوة ويُشرحون بقسوة مايقدم وتظهر التنافسية في الأسئلة وفي حل المشاكل.
وبما أنني كنت حديثة المجيء من مصر ولم أكن قد تعودت على هذا المستوى من النقد والتنافسية فكانت تصدمني هذه التصرفات التي اعتبرتها عدوانية، ولكن فيما بعد اكتشفت أن هذا النقد وهذه التنافسية هما تصرفات اجتماعية صحية تدل على حيوية هذا المجتمع الصغير، وتقوم بدور تعاوني فيه، فعندما ينتقد بقسوة طالب بحث زميله فهو يؤهله للامتحان الذي سيعطيه له الممتحن الخارجي عندما يناقش بحثه، ويحثه على التقدم، وهنا المنافسة هي نوع من التعاون وتساعد الكل على التقدم.
وفي السياق نفسه عندما تتواجد في مجتمع ما صناعات صغيرة تتنافس بقوة فهذا التنافس يساعد على إظهار أجود منتج ويساعد الصناعات المحلية أن تتنافس خارجيًا. هذه كلها أمثلة لحيوية العلاقة بين النظائر التي ينتج عنها منافسة وتقدم وتعاون، ولكن ماذا لو كانت الحيوية في العلاقة بين الجهة المنتجة وعملائها؟ أتعرفون لماذا اشتهرت إيطاليا بصناعة أحذية السيدات؟ يقال أن السبب أن السيدة الإيطالية صعبة الإرضاء، لا يعجبها العجب، فعدم رضاها دفع الصناعة الإيطالية أن تتحسن، وتتقدم وتغزو العالم.
اعتمادًا على دراساته التي نشرها في كتاب The Central Liberal Truth فيرى دانيال إيتونجا مانجلا Daniel Etounga-Manguelle أن الحال يختلف في البلاد الأفريقية. في نظر هذا العالم المتخصص في دراسة الأسباب الاجتماعية والثقافية التي تهيئ أو تناهض تنمية الشعوب الأفريقية، فإن المجتمعات الأفريقية لا تتعامل بتنافسية صحية، بل تحاول أن تبني التعاون فيها عن طريق الإفراط في المجاملات وتحاشي الصراع الظاهر، فهي تتغاضى عن اختلافاتها والخلافات فيها، وتحاول الحفاظ على تماسكها الاجتماعي حتى ولو كان على أرض غير مستقرة، ففي ثقافاتها يجب ألا تهز المركب خوفًا من أن تغرق.
الأسئلة الآتية تأتي إلى ذهننا: "ما سبب الفرق بين الغرب والبلاد الأفريقية؟ لماذا يتنافس بقوة طلبة الدراسات العليا في الجامعة الأمريكية، ولا يتنافس الأفريقيون بهذه القوة بل يحاولون تحاشي الصراع الظاهر؟ وبما أن التنافس من أسباب النجاح فكيف نربيه في المجتمع؟"
لا أعرف بالتأكيد سبب الفرق في التنافسية بين الغرب والبلاد الأفريقية، وربما المجتمعات التي تحاول الحفاظ بأي ثمن على تماسكها الاجتماعي هي مجتمعات عانت معاناة نفسية من الاستعمار أو من ظروف أخرى، أسباب جعلتها هشة نفسيًا.
ومن المعروف أن لعب الرياضة يربي التنافس ولكننا في كثير من مدارسنا قد أسقطنا لعب الرياضة التنافسية من البرنامج اليومي للطلبة، ومن ناحية أخرى نستطيع أن نربي التنافسية في مجتمع إنتاجي عندما نؤسس لجوائز تشجيعية تُعطى بنزاهة لمن يستحقها، وهذا شرط أساسي أن تعطى بنزاهة.
منذ حوالي خمس سنوات زرت بلدة أصافي في المغرب، وهي بلدة تشتهر بصناعة السيراميك، وزرت عدة مصانع سيراميك صغيرة. في كل مرة كان صاحب المصنع يشير إلى الشهادات على الحائط التي حصل عليها في السنين المختلفة في "التفنن، والتصميم التقليدي، والحديث، والفازات والأطباق، وغيره". هذه الجوائز التي حصل عليها الحرفيون عن جدارة جعلتهم يتنافسون عليها، ويبدعون، ويتقدمون، ويخيل لي أننا في حاجة إلى جوائز واحتفاليات تعطى للحرفيين الذين يستحقونها فترتفع بالمستوى الحرفي في مصر.
وهنا قالت شهرزاد: "معلومات كثيرة للتفكر"، وسكتت عن الكلام المباح.
د/سهير الدفراوي المصري


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون